الأربعاء، 14 أكتوبر 2020

ملاحظة سريعة عن المشاعر

هو من الواضح إن جميع المحاولات البشرية للتواصل، بداية من رسائل الدخان، وحتى استخدام الوجوه التعبيرية على شاشات الهواتف اللوحية، محكوم عليها بالفشل، تماماً، تماماً، إلى أن تصل التكنولوجيا لوسيلة نقدر من خلال نقرأ أفكار بعض بوضوح تام، وعندها سنكون قد توصلنا إلى حل 75 % من مشكلة التأويل، وإعادة تأويل الكلام والأفعال، ثم سنكتشف أن هناك 25 % ناقصين، لأن أحياناً الواحد نفسه بيفكّر في أفكار عكس اللي هو بيفكّر فيها عادة، أو عكس اللي هو بيعمله عادة، ولأن أحياناً بتكون الأفكار نفسها متطايرة، وتتبخّر بنفس سرعة تكوّنها، وجايز تكون أفكار بلهاء يعرف الواحد أنها بلهاء، أو هواجس لا معنى لها، يا ترى البنت اللي بحبها كانت عايزة تقفل التليفون عشان محتاجة تقوم تشتغل، ولا عشان زهقت من الكلام معايا؟ هو أنا ممل؟ ايه دا ! كولد بلاي نزلوا أغنية جديدة، حلو شكل اليوتيوب الجديد، يا رب ألحق أخلص شغل أنا كمان، يا ترى هي لسه بتحبني زي زمان؟ ايه دا؟ أنا نسيت الشاي ! هروح أزوّد الميّة، أنا مبحبش الشاي، يا ترى هي لسه بتضحك على افيهاتي بجد ولا أنا فقدت لمستي؟ عايز أشوف فيلم بقالي كتير مشفتش أفلام. إيه الصوت دا؟ أنا جعان. 

فيبدو إنه حقيقي مفيش فائدة حقيقة قد تعود علينا من قراءة أفكار بعض، حيث برضة لو عرف الواحد ما يدور في عقل مراهق وجارتهم بتنشر الغسيل في البلكونة المقابلة بقميص النوم، غالباً هيكره نفسه والبشرية وهيشوفه كحيوان لم يصل إلى الربع الأول من سلسلة التطوّر، هو نفس عقل المراهق، اللي هيسمع أغنية لفيروز، ويفكّر في حبيبته اللي بيشوفها في درس العربي 3 مرات في الأسبوع، ويكتب لها قصيدة عن إنه هيزرعها وردة في بستان أحلامه. 

يبقى الحل الوحيد إذن لتحقيق الـ25% الأخيرة، هي إننا نكون الناس اللي عايزين نقرا أفكارهم. نكونهم بالفعل، ونضحي بجزء كبير من تفرّدنا الشخصي، ومساحتنا التي نرى فيها أننا نختلف عن كل إنسان في العالم، ونعرف إن زيهم زيّنا، وإنهم أحياناً بيبقوا محتاجين يستحمّوا، أو أحياناً ممكن يتنرفزوا، أو أحياناً ممكن يبقوا سخفاء ومملين، وإن مفيش مشكلة لو كنا إحنا مملين أحياناً، لأننا مش على مسرح بنحاول نضحك بعض طول الوقت، وإن عادي الواحد ميكونش في دماغه حاجة غير عن شكل اليوتيوب الجديد، أو إن يبقى الواحد مزاجه زالخرا لما يبقى عايز ينام.. 

يعني بإختصار، وعلى قد ما هذه الجملة تبدو كليشيهه وأعيد استهلاكها من فلاسفة كبار وصغار، يبدو إن مفيش حل عشان نفهم من نريد فهمه، إلا إننا نحبه، بنفس منطلق إن الإيمان لا يكتمل حتى يحب الواحد لأخيه ما يحب لنفسه. ويعني يتمنى الواحد حقيقي في أوقات كهذه، إنه يتصالح مع كليشيهاته أكتر، ويكون قادر على قول ما يراه حقيقيّاً، حتى لو أشترك في معناه مع تامر عاشور.

الاثنين، 24 يونيو 2019

سبع عشرة فائدة لتذكر إيقاع قصيدة


لفترة وأنا مسيطر على دماغي إيقاع قصيدة قريتها في مكان ما، ومش قادر أفتكر قريتها فين بالضبط، ولا عارف حتى بالتقريب أي شيء متعلق بيها، ربما لم ألق لها بالاً أثناء القراءة، ولكنها ككل شيء أصيل لا نلقي له بالاً أثناء وجوده أمامنا، يعود ويطاردنا حين نظن أننا بمأمن منه، كل اللي عارفه إنها كانت بالإنجليزي، وإنها -لتعقيد الامور أكثر وأكثر- كانت جزءًا من محتوى ما على الإنترنت، لا المتن الأساسي، وبالتالي تزداد صعوبة البحث عن أي شيء له علاقة بها، خاصة إني مش فاكر أصلاً ولا كلمة منها، كل اللي بيتردد في دماغي: "دَن دَن دَن دَن دَن دَن دَن دا / دَن دَن دَن دَن دَن دَن دَن دا"، ثم يتكرر هذا مرة ومرة ومرة ومرة، وهكذا للأبد.. للأبد.. للأبد.. للأبد. الدن دن هذه لا تعني شيئًا من الأصل، لأن أي شيء يمكنه أن يكون الـدن دن بسهولة. 

كل هذا، طبعاً، يجبر الواحد على التفكير في الرحلة التي قطعها الشعر، بداية من اكتشاف البشر لقدرتهم على استخدام أحبالهم الصوتي، ثم استخدام هذه الأحبال في تكوين ما سيثبت ككلمات، ثم اكتشاف أن بعض الكلمات تشبه بعض الكلمات الأخرى، ثم الاكتشاف العظيم: الإيقاع. شيء ما ينتج، ليس عن تشابه الحروف، بل من الإحساس العام الذي يتولد في الدماغ، حين يقرأ الواحد مجموعة كلمات تجاور بعضها بطريقة معينة. ولد الشعر من هذه اللحظة، قبل أن نضفي عليه معنى ما، قبل اختراع المجاز، كان الإيقاع أقرب للظواهر الطبيعية.

قررت أرجع لتاريخ البراوزينج، وكذلك البوكماركس، ومن هناك قضيت عدة ليال اكتشف في عالم غريب تركته يرعى في الظل، غابة صغيرة من اللينكات لم أكن أعرف أنها تحت سريري، مواضيع مريبة لا أعرف سبب اهتمامي بها، أو لماذا قررت -في لحظة ما- أنه من الواجب علي معرفة 17 فائدة للبكينج باودر غير استخدامها في الكيكة.

عموماً في لحظة معينة قريبة قادمة، سأكف فيها عن البحث، وأتعايش مع حقيقة إن الـ"دَن دَن دَن دَن دَن دَن دَن دا / دَن دَن دَن دَن دَن دَن دَن دا"، أصبحت جزءاً أصيلاً من أفكاري وتصوّراتي عن العالم، وهذا التصالح هو ما يسميه البشر بالنضج.. أو لا بصراحة. غالباً لم يتفق لم يُسمّ البشر شيئاً كهذا لأنهم مشغولون طبعاً باكتشاف 17 فائدة للبيكنج باودر وغيرها من المواضيع المهمة التي حرّكت التقدم البشري للأمام، وإن كانت لم تنفعنا في رحلة البحث عن تعبيرات تصف ما نحن فيه، مثل التعبير عن التصالح مع بقاء إيقاع قصيدة في الوعي، بعد ضياع كلماتها.

الأحد، 31 مارس 2019

من صنع الأيدي: المرأة ونقل المعرفة الدينية في الإسلام


(1)

تبدأ «أسماء سيد» الفصل الرابع والأخير من كتابها (المرأة ونقل المعرفة الدينية في الإسلام) باقتباس لمحمد بن علي الشوكاني، العالم والمُجدد اليمني المتوفي عام 1250 ه، يقول فيه: "لم يُنقل عن أحد من العلماء أنه رد خبر المرأة لكونها امرأة".
بهذا الاقتباس الختامي، تصل أسماء سيّد إلى الفكرة الأساسية التي قامت عليها الفصول الأربعة. وهي الإجابة عن سؤالين أساسيين، طُرحا بطرق مختلفة: كيف كان وضع المرأة بالضبط فيما يتعلق بالعلوم الدينية في العصور الإسلامية الأولى؟ ولماذا تراجع دورهن بشدة في العصور الحديثة؟

حاولت أسماء سيد الإجابة عن السؤال الأول بطريقة تداخل فيها العديد من الجوانب، سواء التاريخية أو الإجتماعية، في الوقت الذي كان فيه السؤال الثاني في خلفية المشهد دائماً على مدار الكتاب كله، كهاجس ربما لا كفكرة واضحة.

تسود في كثير من الأدبيات المعنية بالدراسات الإسلامية، نظرة تقول بأن المرأة كانت ممنوعة-بالذات في العصور الأولى- من الوصول إلى مصادر المعرفة، أن هذا المنع كان قرارًا واضحًا، مُتخذًا بعناية، ومُطبقًا بعناية مماثلة، وأن مراكمة رأس المال المعرفي كان حِكراً على الرجال فقط. وهي نظرة لها ما يبررها حينما يمتد الفحص إلى السرديات التقليدية في العصر الحديث، وأنماط التديّن الذي يضع المرأة أولاً في درجة أدنى أمام النص الديني، وثانيًا، يطلب منها الإنصياع المباشر لهذه القرارات، وإلا فإنها ترتكب مُحرماً. التعامل مع هذه النظرة كان دائماً محل توظيف لأهداف، في الغالب، سياسية، وفي كل الأحوال غير محايدة.

ما تحاول «أسماء سيد» أن تفعله، هو أن تستخرج من هذه المساحات المتداخلة، سردية جديدة تحاول فيها استكشاف ما إذا كان للمرأة إسهام في عملية نقل الحديث على مر السنين الأولى في الإسلام أم أن الأمر كان حكراً على الرجال. 

ليس هذا كتاباً تاريخياً بالمعنى المفهوم، وإن كان موضوعه تاريخياً، إلا أن المبحث الأساسي فيه، هو محاولة التأصيل لإزدهار مساهمة المرأة المسلمة في رواية الحديث، تحديداً في العصور الأولى من الإسلام، ثم اختفاء هذه الظاهرة في العصور الإسلامية الوسطى، قبل أن تعاود الظهور بعد ذلك. ومحاولة الوقوف على أسباب الإزدهار والاختفاء، والتعامل معها لا كظواهر ذاتية، تبدأ وتنتهي بمعزل عن غيرها، بل وضعها في سياقها الإجتماعي والديني في هذه العصور. 

تنطلق أسماء من هذه الفكرة الأساسية لتستكشف إسهام المرأة في العلوم الدينية، وفترات الإنقطاع والإتصال، وذلك عبر دراسة تعامل المرأة مع الحديث المرويّ عن النبي، واعتباره البنية السردية الأساسية.


(2)

ظهر «الحديث» باصطلاحه ولفظه، في وقت مبكر من التاريخ الإسلامي، مَثّل النبي، بشخصه، المصدر الأهم للمعرفة الدينية في الإسلام. فهو لا ينطق عن الهوى، واتصاله بالله لا ينقطع، وبالتالي اعتبر المسلمون منذ اللحظات الأولى كلام النبي وأوامره وأفعاله، وكذلك ما يقرّه وما ينهى عنه، جزءاً أساسياً من أي تشريع، تحديداً في المقام الثاني بعد القرآن، الذي هو كتاب الله، المحفوظ فيه كلامه.

نتيجة لمحورية الدور الذي لعبه الحديث النبوي في التشريع، كان التعامل معه دائماً مسألة مليئة بالتحيّزات على مدار تاريخه وتطوّره. حتى لو استبعدنا، بطريقة ما، مركزيته الديني، ففي الوقت الذي رآه بعض الباحثين سجلاً دقيقاً لتاريخ الإسلام وتشكّل نظامه السياسي، فإن البعض على ناحية أخرى، رأوه تلفيقات لا أساس لها. 

تبتعد المؤلفة من البداية عن هذه الإشكالية. فتحيل دراستها إلى ما تسميه بالـ«ذاكرة الجمعية» الإسلامية عن دور النساء كراويات للحديث. 
فهي هنا، كما تقول، لا تُناقش مسألة الفصل في صحة الأحاديث المنسوبة إلى النبي من عدمها، لكنها تكتفي بالحد الأدنى المقبول الحصول عليه من هذه المرويات، وهو استكشاف ما نُسب إلى النساء من روايات، وما جرى تداوله بالفعل عنهن، وبالتالي الخروج بلمحات عن حياتهن والبيئة التي مارسن حياتهم فيها. 

الأطروحة الأساسية في هذا الكتاب هي التعامل مع الأحاديث من حيث أهميتها عند جميع الأطراف. فبشكل عام، لم تخرج الأحاديث المروية عن التصورات العامة التي كوّنها اللاحقون من المسلمين عن سابقيهم.

تطرح المؤلفة في مقدمتها ثلاث أسئلة أساسية، تحاول الإجابة عنها عبر طريقها في الكتاب كله: هل كان التعامل مع الراويات من النساء على أساس أنهن عالمات، أم مجرد صاحبات للأحاديث الشفوية التي نقلنها بحكم صحبة النبي والتزامن معه في نفس المرحلة الزمنية؟

هل هنالك تشابه بين دور الصحابيات في هذه الفترة المبكرة من التاريخ الإسلامي، وبين المُحدّثات من النساء في العصر السلجوقي والمملوكي والأيوبي؟

والسؤال الأهم: كيف استطاعت النساء المسلمات الحصول على الحق في التعليم، بل والرواية والتدريس في بعض الأحيان، وهو ما كان من نتائجه بالبديهة التواصل بالكلام والنظر مع شيوخهن الذين تعلمن على أيديهم، ومع طلابهن الذين تلقوا العلم عنهن؟ 

(3)

استخدمت أسماء سيد، أدوات تنتمي بالأساس إلى عالم علم الاجتماع التربوي، وتحديداً تلك الدراسات التي اهتمت باستخدامات المعرفة الإجتماعية. 

المعرفة هنا ليست شيئاً منفصلاً عن التفاعل المجتمعي، بل هي جزء أصيل من القدرة على التعليم والمشاركة. 
كان «بيير بورديو» pierre bordieu  هو من أشار إلى ضرورة التفكير في رأس المال، لا على اعتبار أنه مجرد موارد مادية متراكمة، وإنما على أنه «أصول» يمكن لها أن تظهر في شكل سلع ثقافية، ومن ثم، تؤدي إلى حراك اجتماعي.

تقطع المؤلفة منذ اللحظة الأولى، بوجود تمايز واضح في أدوار المحدثات من النساء في العصور الإسلامية الأولى (الصحابيات) عن المُحدثات اللواتي ظهرن في عصور لاحقة. والفارق هو بالضرورة مسألة معاينة النبي عن قرب. 

كانت المُحدثات الأوائل راويات حديث بحكم التزامن. كن شاهدات عيان، رأين النبي وسمعن منه، ثم أخبرن عن ذلك، بل أن بعضهن كان يوضح رأيه في المسائل الفقهية والتعبدية والعقائدية بناء على هذه المعايشة، لكن من الضروري ملاحظة أن رواياتهن كانت تفتقر، مثلها في ذلك مثل روايات الرجال، إلى هيكل تنظيمي واضح، وهو الذي سيُعرف في عصور لاحقة بالسند والمتن.

وعلى النقيض، تمتعت المحدثات في العصور التالية بمكانتهن بناءً على كونهن راويات للحديث ومُعلّمات لطالبي العلم، هذه الأحاديث التي جرى جمعها وتنقيحها في خلال هذه الفترة.
هذا التباين، الذي قد يبدو بديهيًا، هو عنصر لازم لفهم طبيعة الأدوار الإجتماعية، وبالتالي لا بديل عنه، لو أردنا تأمل الحالتين. 


(4)
يؤكد تحليل «أسماء سيد» على أنه لا يمكن استيعاب النقاط المحورية الأساسية في التاريخ الإسلامي، دون إجراء تحقيق في ديناميات علاقات الجنوسة Gender dynamics، بهدف فهم آليات القوة والتأثير التي تعاملت معها المرأة وتأثرت بها، ولكنها في الوقت نفسه، تؤكد حرصها على التعامل مع القضايا التاريخية بمعزل عن مقاييس الواقع الذي تكتب فيه وتحيزاته.

ففي الوقت الذي تُسلّم فيه بأن هنالك تبعات متباينة لدراستها، فيما يتعلق بالخطاب النسوي المعاصر، وفيما يتعلق بقضايا متباينة مثل تمكين المرأة والوصاية عليها، فإنها تحذو حذو مؤرخين مثل «جون سكوت» و«كارولين بينوم»، في الهاجس الذي عبر عنه كلا منهما، عن أن الأفكار التي تحملها المخاوف النسوية معرضة دائماً لخطر تحليل التاريخ بأثر رجعي. 

المؤلفة هنا تحاول، مرة أخرى، الخروج من دائرة جدل لا يتعلق بموضوع بحثها الأساسي (كما فعلت بالضبط فيما يتعلق بصحة الأحاديث النبوية)، وهي بالتالي تحذر من قراءة الكتاب قراءة معادية للمرأة، أو مُمكنة لها. فهذا الموضوع لا يشغلها بذاته كمجال للبحث.
هذا التمييز الذكي، هو بالضبط، ما يجعل من قراءة الكتاب تجربة فريدة. فبعيداً عن محاكمة التاريخ بأثر رجعي طبقاً للواقع، أو الإنسحاق الكامل أمامه. يمثّل موضوع البحث ومنهجيته، مساحة للتأمل والتفكير؟ 


(5)

يستعرض الفصل الأول من الكتاب المعنون بـ«الصحابيات واستحداث الرواية» المراحل التي مرت بها عملية رواية الحديث عن النبي، بالتركيز على الصحابيات في العصور الإسلامية الأولى، وبالتحديد، زوجاته، أمهات المؤمنين، واللواتي كن، بحكم القرابة والصلة والتعامل اليومي، الأكثر اتصالاً وقدرة على الرواية، بالمقارنة بغيرهن، ممن اقتصرت العلاقة بينهن وبين النبي على سؤاله عن أمر من أمور الدين أو الدنيا، ورواية الإجابة بعدها، في سياقات مختلفة. 

تحظى السيدة عائشة بنت أبي بكر، والسيدة أم سلمة بالنصييب الأكبر من هذه المرويات. وتلمّح المؤلفة إلى أن السيدة عائشة والسيدة أم سلمة اختارتا نوعاً مختلفاً من التفاعل مع الوسط المحيط بهما من بعد وفاة النبي، ففي الوقت الذي التزمت فيه أغلب زوجات الرسول بدرجة من الالتزام بالـ«حجاب» المفروض عليهن بحكم نص قرآني (وصل الأمر إلى رفض السيدة سَودة بنت زمعة الذهاب لأداء فريضة الحج بالرغم من إذن الخليفة عثمان لها)، كانت كل من عائشة  وأم سلمة على درجة من الاشتباك المباشر، لدرجة التدخل بالتوجيه والتعديل في كثير من الأحيان، وأن لرأيهما وزن شرعي معتبر، لكن الفارق الأساسي بين أم سلمة وعائشة، يظهر في هذه النقطة بالتحديد. فعائشة كانت تتخذ زمام المبادرة في كثير من الأحيان، متحدثة عمّا رأته مباشرة من رسول الله، بل ومدليه برأيها في كثير من القضايا. مدفوعة في الغالب بشعور استحقاق نابع من القرب الطويل من النبي، والحظوة عنده.

أما أم سلمة، فقد كانت أشبه بباقي زوجات الرسول، من حيث ابتعادها عن الحياة اليومية للمجتمع، وإن كانت دائماً ترحب باستشارات كبار الصحابة لها. 
وهو ما يقول أن طريقة تفسير عائشة لآيات الـ«حجاب» كانت تنحو منحى مختلفاً عن باقي زوجات النبي.

يتغيّر الحال تماماً في الفصلين التاليين، الثالث والرابع، وفيهما يظهر تراجع حاد لوجود المحدّثات على الساحة العامة، تزامن هذا مع ظهور أُسس عامة لعلم الحديث، ممثلة في الإسناد والمتن. ونشأة مجموعة معيّنة من القواعد التي تستلزم حركة اجتماعية من نوع معيّن، لم تكن متوافرة في هذا الوقت للنساء. 

تربط المؤلفة بين تراجع مشاركة النساء في رواية الحديث إلى ثلاثة أسباب رئيسية، أولهم كان ظهور الأسس العامة كما سلف، والثاني كان تصاعد الجدل بين أهل الحديث في استخدامه كمصدر للتشريع والعقيدة، والثالث وهو الأوقع، كان ظهور الـ«الترحال» طلباً للحديث واستوثاقاً منه، كدعامة أساسية لاعتماد المُحدث.

في الفصلين الثالث والرابع تحديداً من هذا الكتاب، اهتمت «أسماء سيد» بتوضيح أن حركة انتعاش المُحدثات في التاريخ الإسلامي، لم تكن حركة تهدف إلى تدمير ما أسمته «القواعد الأبوية» في المجتمع، ولم يكن لها أثر مباشر في «تثوير» نشاط المرأة المجتمعي. بل كان الهدف بالأساس هو محاولة الحفاظ على تراث النبي، والذي بدأ المسلمون باستشعار خطورته بمرور السنين التي تفصلهم عن وفاة النبي. بإختصار، وكما تقول المؤلفة بشكل واضح: "كان نطاق عمل المرأة المسلمة في الحقبة الكلاسيكية مُقيداً بمعايير مجتمعاتها، التي وجهت إمكاناتها الفكرية نحو رواية الحديث بدلاً من الاشتغال بالفقه أو الكلام. ومن خلال تبني هذه القواعد ودعمها، وليس العمل على تخريبها، فإن المرأة المسلمة قد حققت مكانتها، وفي جميع الأحوال إنجازها الشخصي".


(6)

الكتاب في مجمله محاولة جديدة، في مساحة عادة ما يختلط فيها السياسي بالتاريخي بالإجتماعي، ويغطي فيها التحيّز على البحث الجاد. حاولت «أسماء سيد»، خلال رحلتها التي شملت الفترة الطويلة من بداية النقل عن الرسول، وحتى نهايات الإمبراطورية العثمانية، استعراض مساحات ظلت لوقت طويل بعيدة عن أي دراسة جادة، والتي أزعم أنها الطريقة الأساسية لفهم الواقع وتخطيه بل وتجاوز مشكلاته وأسئلته، التي نكتشف، بسبب كتب كهذه نعاني من ندرتها، أنها ليست إشكاليات جديدة، وأن النقاشات الكُبرى التي نخوضها في يومنا هذا، أو التي تبدو مخيفة بالنسبة لقطاعات من المسلمين، في مجرّد تخيّلها، بداية من الأسئلة البديهية حول حركة المرأة في الفضاء العام، وحتى دخولها إلى المسجد كمُعلّمة ومدرسة، وجلوس الرجال أمامها في موقع التلميذ لا الأستاذ، هي نقاشات مكررة في جوهرها، تحتاج ربما إلى التمعّن في القرون الأولى، بنفس القدر الذي نتطلع فيه إلى الأمام، وأن الأمور لم تكن ما هي عليه الآن منذ الأزل. بل هي من صنع يدينا.

(نُشر في مجلة مرايا - العدد الرابع)

الثلاثاء، 15 يناير 2019

ينتبه الواحد لما يغيب عنه، أما الواقع فهو ابن الكثرة، والأشياء تُذهب بعضها بعضاً.

الجمعة، 4 يناير 2019

حكاية الفيل والدرفيل

يُفاجيء، عادة، من أتيحت له فرصة إصلاح ما كسرته يداه بحقيقة تبدو بسيطة إلا أنها تحمل قدراً مدهشاً من التعقيد: أن ما حدث، قد حدث بالفعل، وأن لا جدوى من محاولة الالتفاف حول هذا. وصحيح أن النوايا الحسنة تشفع لكل شيء، إلا أنها لا تملك أن تغيّر الماضي بأي حال. لأن الأشياء لا تحدث في دماغك فقط، وكل ما يمكنك فعله هو المحاولة. دون ضمانات.

السبت، 12 أغسطس 2017

في النهاية، يبدو أن ما يمنعني -كشخص لا يوجد شيء يمنعه من فعل أي شيء- من فعل شيء أرغب فعلاً في أن أفعله، هو خوفي. وبالتالي يبقى لي، أن التصرّف الشجاع الوحيد، في هذه اللحظة القاسية التي يكتشف فيها الإنسان محدودية قدراته، وضعف قدرته في السيطرة على نفسه، هو أن يعترف أنه خائف، وأن الحياة مخيفة، ولا مهرب منها، حتى لو كانت تافهة وستنتهي، وأنه في الواقع، رغم كونها تافهة وتنتهي، فإنها مخيفة. وهذا الإدراك، بعيداً عن كونه مخيفاً في ذاته، فهو مهين، ولا هرب من مهانته إلا - مرة أخرى- في الاعتراف بالخوف كوسام، كما يضع المتسوّل المجنون أغطية الزجاجات على صدره ويصرخ في الشارع كل فجر: "انتباه للجينرال"، وتُحتقر الأوسمة الحقيقيّة. 

الاثنين، 22 مايو 2017

حكايتان

بنات أفكاري (25 سنة) غادرن رأسي منذ 3 سنين، خلعن الحجاب، ومشين على حلّشعرهم، ثم سافرن للعمل في تجارة العملة بالعاصمة الصومالية مقديشيو. أحياناً يستغفلن قرصاناً صومالياً وينقذن الرهائن الذين كانوا ينتظرون الموت في أي لحظة، ببراعة ومكر وحسن تقدير. أحياناً يكنّ هن أنفسهن الخاطر الشرير الذي يتردد في باله وهو بيقتل ضحاياه. وأحياناً يقسّمن ساعات العمل على بعضهن البعض، جزء يساعد القرصان، وجزء يساعد الضحايا. العدالة أهم شيء في المعركة، حتى لو لم تكن المعركة عادلة. ملهمش سياق، وملهمش كبير، ومش ماشيين على نمط ثابت. أفكاري كل يوم بالليل بتنام ودموعها على الخد تسري، وتصحى تنادي على القمر بالليل، من أجل أن يرد البنات.
 ---- 
مجازات الليالي الحزينة (26 سنة)، كن يعشن في عالم التجريد. مللن من العيشة وسط الضلمة، فهربن من عالم التجريد المربك، إلى عالم الأفعال المباشرة ذات الأثر. فشلن برضة في عالم الأفعال المباشرة. وتعبهن كان لا يوصف. كل كلمة يقلنها تتحقق حرفياً. وكل مجاز ينزل مثل القضاء. لو قال ولد لبنت "بحبك قد البحر"، ينفجر قلبه، وتتدفق المياة بجنون من تمزقات عضلة قلبه. لو قالت فتاة لفتاها، وهي تعاتبه: أنت قلبك حجر، يقع قلب الشخص ساعتها، بلا لحظة انتظار، في رجله. 
شعرن بتأنيب الضمير من قدراتهن، فخفن من استعمالها.. بعد فترة من التخبط، وطمع كلاب السكك، وشعراء وسط البلد- ذوي الأعين الميتة، والافواه كريهة الرائحة، من فرط البيرة وانعدام العلاقة.مع فُرٓش الأسنان- فيهن، وكل محاولاتهم القذرة لوضع المجازات في قصائد رديئة بهدف اغواء الفتيات الساذجات، بعد كل التخبط دا، والتوهان على الألسنة، وفي صدور فتيان غير قادرين على الإعتراف بحبهم، أو في آية الكرسي في دلّايات على صدور فتيات مسافرات في قطارات الدلتا، وتخبّط في لوح رخيصة معلقة في عيادات أطباء الأطفال تقع في عمارات لا يمكن رؤية نوافذها من فرط اللافتات، بعد كل هذا، واحدة بنت حلال شافتهن وهي بتسمع ام كلثوم، في ليلة سهر طويل، وهي تقول: يورد على خاطري، كل اللي بينا اتقال. هي مش شافتهم بالضبط، هما خطروا على بالها -مجازاً- وسط الحاجات اللي اتقالت بين ورود الخاطر. شعرت الفتاة الطيبة بالشفقة عليهن، جابت لهن شغلاً في مدرسة ابتدائية في كوم الدكة، شغالين 9 ساعات في اليوم، بس مبسوطين. يخطرن على بال عيّل صغير فيبصّ لزميلته أم سِنّة ناقصة يحبها. يساعدن المدرس الضائق بمعيشته، فيتسّع قلبه حتى يسع حجرة الدرس، فيقدر أن يضحك على دعابة سخيفة لمحمد صلاح بتاع خامسة تالت عشان ميكسرش بخاطره. حاجات كدا يعني..


-----------
إلى روح زينب مهدي.

الأحد، 16 أبريل 2017

أحد أكثر التناقضات المنطقية، منطقيةً. كلما استهلك الواحد، من نفسه، في الوقت، كلما زادت نفسه، واتسّع الوقت حوله. 

السبت، 3 سبتمبر 2016

السبت، 23 أبريل 2016

كمقبض باب مثبت في جدار

كل عبارة لم تصب هدفها، تعود لتنتقم مني، كل وصف خاب في التماثل مع موصوفه، يفسد أي محاولة أخرى قادمة. لو شبهت الشمس بغير ما يرضيها لانطفأت، لو قلت عن الشجرة ما لا تقوله الشجرة عن نفسها، تسقط أوراقها، تتبدّل، ربما إلى حطب، ربما تتحول إلى طائر. تثمر أو يسقط ثمرها. التنين الأزرق الذي يلعب الكرة وهو يركب دراجة حمراء، لم يوجد قط، لكنه يوجد الآن، الجسر الذي أمشي عليه في خيالي، بعد أن صنعته بصبر ودأب، يخدع غيري، يتسبب في سقوطه من حالق بعد خطوتين في الفراغ. لكن الفتاة التي ابتسمت لي، أضاءت قلبي، في المجاز، وبنفس القدر في الحقيقة، حتى أنني كنت مميزاً وسط العتمة.

الاثنين، 4 أبريل 2016

الموضوع كان نوعاً ما قريب من كدا: قريت كتاب حلو، وعايز أقول عنه كلمتين. لكن الموضوع الذي يبدو بسيطاً، تحول إلى شيء ما عملاق، يصعب الحديث عنه، واكتشف الواحد في نفسه، إنه معادش فيه نفس. وإنه بمجرد كتابة جملتين، يشعر بعدها بدرجة من الأرهاق قادم من لحظة: هريّح شوية وصحّوني على الغدا. أعتقد دا له سبب ما، لكني فعلاً مش قادر أدور عليه. حاسس إنه بعيد، وإن رحلة البحث عنه مرهقة، والأسوأ، بلا جدوى حقيقيّة. 
بفكر دلوقتي إن دي أول مرة، من ساعة ما بدأت كتابة في المدونة دي، أتكلم فيها بشكل واحد وصريح بصوتي، صوتي الشخصي، مش استعارات لأصوات أخرى، دا طبعاً ممكن يكون لأن المدونة (أنا كمان بقيت أشير للوسيط الذي تتم عبره الكتابة)، بعيدة شوية عن العالم المعتاد اللي كنت بتحرك فيه خلال الفترة اللي فاتت، عالم الفيسبوك، المقالات في الجرايد، البلا بلا بلا. وبفكر دلوقتي برضة، إنه جايز أكون بتكلم عن الـ"كتابة"، لأنها عملية معادش لها سحرها السابق، مش إني فقدت الإهتمام. لأ، إني تعبت. العامية ينطبق عليها نفس الفكرة، لأن الفصحى عموماً وسيلة تأسيس وبنيان، قبل أي شيء.
ناصر، صديق طيب هو، بيقولي إني ساعات بتحرك وبعيش، وكأني جزء من رواية. ناصر مقراش دستويفسكي، لأن دستويفسكي بيقول إن طموح البشر، هو أن يصيروا في النهاية شخوصاً روائية، هو بيقول دا طبعاً من قبيل إن الإنسان بيحاول بشتى الطرق إنه يلاقي سياق، نسق واضح منتظم يتحرك من خلاله. كل هذا تفتقده الحياة طبعاً، بكل عشوائيتها وصخبها، وسوء نهاياتها، أو انعدامها.
المهم، يعني كان الواحد قرا رواية، تمتليء بأشخاص يشعرون بالذنب، وثقل أفعالهم السيئة، ويقضون أوقاتاً طويلة بعدها يكفّرون عن هذه المشاعر السيئة التي تستولي عليهم. أو يتهرّبون من مسئولية أفعالهم، ويقضون الباقي من أعمارهم يحملون هذا العبء فوق الظهور. العبء اللي ممكن يكون معناه الإنجليزي أوضح grudge الشيء الجاثم. الحِمل. إلخ إلخ. يعني. المفروض الكلام دا، عديم السياق، ينتهي -كمحاولة إنقاذ أخيرة، واستخلاص نسق ما- فجأة.

السبت، 30 يناير 2016

يحب الأشياء، ويرثي لها



بالأمس، 29 يناير، كان عيد ميلاد السيد أنطون تشيخوف، خير من أنجبت روسيا، والذي كان ليبلغ عامه السادس والخمسين بعد المائة، لولا أمر الموت.
عاش تشيخوف حياة حافلة، درس الطب، وعمل في الكتابة لكسب المال، في البداية، ثم عجبه الموضوع فأسس فرقة مسرحية. عالج الفقراء مجاناً كقدّيس.

أصيب بالسلّ، وعانى من النزيف المتكرر. في نهاية حياته، سافر مع زوجته أولغا إلى الريف الألماني للإستشفاء، وهناك زاره السيد تولستوي. تبادلا بعض الأحاديث الودّية التي ستخلّدها الكتب، تولستوي أعلن مراراً أنه يحب تشيخوف الإنسان أكثر من الكاتب، في الواقع، تولستوي أحبه "حب الأب لإبنه"، كما سيقول كاتب عظيم آخر، هو مكسيم غوركي، ربما ببعض الغيرة من هذا الحب الذي لم يحظ به أحد من الكهل المتجهّم، تشيخوف كان يستحق هذا الحب للإنسان الذي كان عليه، قبل أي شيء، عامله تولستوي بقسوة فيما يخص أعماله، وكان يخبره أكثر من مرّة عن سذاجة بعض مسرحياته. أتذكر هذا المشهد الذي تم تسجيله أكثر من مرة: تشيخوف يجلس في شرفه بيته الريفي، محادثاً فتاة تبلغ الخامسة من العمر بمنتهى الجدّية عن بقرتها ودجاجاتها، ويتركها تعبث بيديها في ذقنه. في العديد من المرّات التي كان يتم تناول أعمال تشيخوف فيها، يتم كذلك تناول كم كان شخصاً رقيقاً، شديد الحساسية. يخبر الناس عن "كم هي حياة تافهة تلك التي تعيشونا أيها السادة"، لكنه يشفق عليهم، ويرثى لهم.

أصيب تشيخوف بنوبة نزيف في سفره، وبينما كان نائماً نومته الأخيرة، اعتدل من رقدته ليعلن لزوجته بالألمانية: إنني أموت. حاول الطبيب تخديره، فطلب هو كأس شامبانيا، تأمّلها بعد شربها على مرة واحدة، ثم كانت آخر كلماته: مضى وقت طويل منذ أن شربت الشامبانيا. ومات عن أربعة وأربعين سنة، بعد أن فعل الأشياء كلها. بشكل أدق: بعد أن فعل المهم منها.


الأربعاء، 27 يناير 2016

خوفاً من ضياع الوقت، أتركه يضيع. خوفاً من الجهل بنهاية الطريق، أتوقف فجأة عن المشي.

المتابعون